بقلم: ناجي جواد الساعاتي
صحفي وباحث راحل
هذه خواطر وذكريات ولمحات عن الماضي القريب، انقلها نقلا حيا عن الذاكرة، وسأعرض في مضامينها موحيات الفكرة النبيلة الاولى التي كانت حلما لذيذا يداعب نفوسنا وعقولنا اول الأمر، ثم ترجمت الى عمل خيري نبيل ينفع الناس ويخدم المجتمع.
وكان ذلك منذ ما يزيد على اربعين عاما. يوم كنا نخبة من الاخوان والاصدقاء، تتفاعل مع احداث الوطن ووقائعه، ونتحسس بما كان يعانيه ابناؤه من الجهل والفقر والمرض، لقد كنا ندرك عن وعي بما قرأناه وبما القى الينا من حقائق الامور التي رواها لنا اهلنا ما خلفته الحرب العالمية الاولى من جوانب التخلف والتأخر في الحياة العراقية.. ثم ادركنا بالحضور والمعايشة ما جلبته الحرب العالمية الثانية من مصائب وويلات لعموم العالم وسعوبه، ممن اشترك مباشرة في الحرب او لم يشترك.
وحين انزاحت عن البشرية المفجوعة باوزار الحرب واثامها.. تلك الغمة المظلمة القائمة، باعلان نهايتها والعودة بالعالم الى السلام، وبالحياة الى غايتها النبيلة الاصيلة في خدمة الانسان، عام 1945، قررت تلك النخبة من الاخوان والاصدقاء، ان تقوم بخدمة عامة للمواطنين الاميين الذين لم تسعفهم الظروف للدراسة والتعلم في طفولتهم وصباهم..
وهل اشرف واجل من مهمة ايصال العلم والثقافة الى من بحاجة اليهما من المواطنين، الذين كان عددهم كبيرا جدا يومذاك في بغداد خاصة وارجاء الوطن عامة. وتحولت الفكرة النبيلة الى حيز العمل والتطبيق واستقرت الاراء على ان نستنير باستاذنا العلامة الجليل السيد (محمد الحيدري)، العالم المسؤول عن جامع (الخلاني) وراعيه وامام الصلاة فيه. وكانت العلاقة بيننا وبين السيد الجليل علاقة وثيقة طيبة، اذا قلت انها علاقة اب بابنائه او اخ كبير باخوته فلا اتجاوز الواقع.
ولما قصدناه لعرض الموضوع والتماس حسن التوجيه قال:
ان خدمة العلم ونشره بين الناس عمل مبرر مشكور من الله والناس، وهو فرض يرقى الى مستوى العبادة.
وقد كان هذا الموقف المتجاوب من السيد الحيدري هو المأمول فقد كان متميزا عن اقرانه وزملائه من رجال الشرع الشريف وعلمائه، بمميزاته فريدة نادرة، فقد كان فضلا عن تضلعه في علوم الدين والتفسير والفقه والتاريخ الاسلامي واللغة.. رجلا اجتماعيا يطعي لكل حقه، جم التواضع مع الصغير والكبير، وحين وجدنا مستعدين لمباشرة التدريس وادرك بومضة مشرقة من تفكيره بان المشروع معلق بايجاد المقر الملائم لاستيعاب الدارسين..
خصص لنا غرفة بجوار المصلى لتكون صفا تقام فيه الدروس كل مساء، وكان مقتصرا على تعلم مبادئ القراءة والكتابة والحساب.. وثبتت السبورة السوداء على الجدار واكتملت مقومات الدراسة.. وحين شرعنا بنشر دعوتنا بين ابناء حارة (الخلاني) توافد علينا الراغبون في الدرس من مختلف الاعمار ممن لم تسمح لهم اعمالهم اليومية المضنية بتوفير فرصة الدراسة والتعلم لهم والمواظبة في المدارس النهارية. وكان الاقبال شديدا، وتلقى الدارسون دروسهم بشوق ولهفة واصغوا بادب ورغبة، وضاقت الغرفة بالعدد واضطررنا الى لقائهم بوجبات وكنا نحن النخبة قد تقاسمنا العمل بيننا لكل واحد منا اسبوعا كاملا، (ناجي جواد ، صالح عباس الحداد، علي حسين ومحمد علي درويش وعبد الحميد المحاري) كنا متعاونين ومتلفين جدا لنجاح المشروع يدفعنا عاملان قويات للمضي في العمل، اولهما اقبال المواطنين وانتظام مواظبتهم وثانيهما الشعور الوطني الذي يملا قلوبنا..
وكانت في الجامع مكتبة صغيرة هي مجموعة كتب ومصاحف ومصادر تتعلق باختصاصات رجل الدين وممارساته يملكها علامتنا (الحيدري) . وذات مساء كنا مجتمعين به لتدارس احوال المشروع وشؤون الدارسين اثار اجتماعنا بفكرة جديدة، عبرت عن رغبته الصادقة وامنيته الكريمة في نشر الثقافة بين الناس وخاصة من كان متعلما او مثقفا منهم عن طريق تأسيس مكتبة ملحقة بالجامع، على ان تكون غرفة التدريس
مقرا لادارتها.. معولا في ذلك على همم الشباب ، وعلى ما يجود به الخيرين لمدنا بالكتب وبالمال.. وانهالت التبرعات كتبا واموالا من كل مكان ، من علماء وادباء واساتذة واصحاب مكتبات خاصة وعامة في العراق، يشاركهم في البذل والتبرع المؤلفون والناشرون.
وكانت هذه البداية الرائعة هي بداية تاسيس (مكتبة الخلاني العامة) عام 1364 هـ، 1945م، نفس السنة التي باشرنا فيها تعليم الاميين.. وتطور المشروع وباركه الخيرون من اجل ان تكون المتكبة منارا لنشر الثقافة وكنزا يضم جواهر المعرفة.
وضاقت الغرفة القديمة (صف التدريس) بالكتب ومجموعها يتزايد يوما بعد يوم، خاصة بعد ان اعلن السيد في ذلك المساء المبارك عن تبرعه بمكتبته النفيسة ذات الكتب القيمة للمشروع الجليل، فما كان من الحاضرين الا الاقتداء والامتثال، ممن كان يملك مكتبة تبرع بها او ببعض كتبها، ومن لم يكن كذلك تبرع بالمال، ومن لم يكن يملك لا هذا ولا ذاك تطوع بالجهد والسعي.
وممن اذكرهم بين اوائل المتبرعين بالكتب السادة (وائل السعدي) وهو يهدي مكتبته الصغيرة في عدد كتبها الكبيرة في مغزاها، والاستاذ (يحيى الباجه جي) وقد هزته الاريحية فيقدم مجموعة طيبة من كتبه، كذلك فعل المحامي (عبد الرزاق الشيخلي) و(الحاج حسين علي المحاري) وغيرهم كثيرون، ثم تسعفنا عائلة المجاهد الكبير والوطني الحر (الحاج محمد جعفر ابو التمن) فتهدي مكتبته ذات الكتب النادرة والمظان الفاخرة، وبهذه الاريحية العالية والتجاوب الكريم، تضاعف نشاطنا وازداد بالخيرين ايماننا، والناس هم الناس، في كل مكان وزمان، تسحرهم الدعوة الخيرة، ويساندون العمل المجدي الذي تعود ثماره لصالح المجموع، اما انا فقد بلغ ايماني بالفكرة وحماسي لتاييده حدا دفعني لتقديم كتبي كلها هدية الى المكتبة، مع جميع ملحقاتها ومكوناتها من منضدة كبيرة للكتابة وخزانة للكتب ودولاب خاص بالبطاقات المكتبية والارشيف، وحين غصت الغرفة الصغيرة باعداد الكتب الكثيرة المنهالة علينا من كل مكان، وقعنا من امرنا في حيرة، وتوالت اجتماعاتنا لدراسة الموقف وحل ازمة الكتب المكدسة!.. وفي مرة من المرات اشار علينا السيد الحيدر باشغال الارض التي تهدمت مكوناتها ولم يبق من معالمها سوى بقايا جدار، وكومة من تراب واحجار.. فدهشنا للاقتراح الضخم، وكادت تقعد بنا همتنا عن تحقيق هذا الامر الذي يكاد يكون في حكم المستحيل، اذ من اين نأتي بالمال لتشييد القاعة والخزائن وسائر مستلزمات المكتبة..؟
ولكنني اعود لنظرتي المتفائلة الى طبيعة الاشياء، واوكد على ما امنت به دوما من ان الروح الخيرة في الانسان، تطغي على الشر، فالانسان اقرب للاصلاح منه للهدم والفضيلة منه للرذيلة، وبهذه الروح المتفائلة لطبيعة الاشياء، عقدنا العزم على اكمال المشروع والسعي من اجله قدما، وفي صباح اليوم الثاني عرضنا طلبنا على المواطن الغيور الاستاذ (صادق البصام) رحمه اله، لنحصل منه على (تخويل) بجسور الحديد من لجنة التموين العليا.
فمنحنا التخويل المطلوب وجمعنا المال لشراء الحديد وبقية المواد الانشائية، وما هي الا بضعة ايم حتى طرحت كلها في ساحة الخلاني وهي تستعطف الايدي الكريمة والسواعد الفتية والقلوب المؤمنة، لتتبرع برفعها عن الارض، ثم تحويلها الى بناء شماخ يضم تراث العلم والادب والفكر..
وهكذا ارتفعت وقامت.. ولكننا حين وجدنا اكثر رفوفها وخزائنها خالية من الكتب عاودنا حملة التبرعات داخلا وخارجا واصبح العدد يتضاعف والاقبال عليها يتنامى حتى اصبحت مقرا للدارسين من كل فئة بما فيهم الدارسين الطامحين لدراسة الماجستير والدكتوراه بما اغنيت به من مصادر ومراجح وكتب قيمة..
وكانت الفرحة الكبرى عندما بلغ عدد الكتب حداً تجاوز الـ (25) الف كتاب، اقام مؤسسها العلامة (الحيدري) معرضا للكتاب في قاعاتها الرحبة عام 1950، فنوافذ على المكتبة مساء الاحتفال جمهرة كبيرة من المثقفين والعلماء والشعراء والادباء واهل الفضل للمشاركة في الاحتفال، وكان في طليعتهم العلامة الشيخ (محمد رضا الشبيبي) وعميد الحقوق الاستاذ (منير القاضي) والشاعر (محمود الحبوبي) والشاعر (حافظ جميل) والاستاذ (فؤاد عباس) والدكتور (عبد الرزاق محي الدين).
ويجمل بي ان اوضح عما صاحب مشروعنا هذا من تلكؤ وتعثر. واراني ملزما بشرح هذه الناحية بوضوح، فقد ظهر لي بعد هذه التجربة الرائدة.. ان اخطر ما تتعرض له هذه المشاريع الخيرية العامة هو الاهمال
والصدود، وذلك بانطفاء جذوة المتحمسين لتأسيسها، ثم بالاخير انفضاضهم من حولها وعدم مدها بالعون والعناية اللتين تعهدوا بمواصلتهما باتجاه انعاش المشروع وادامته.
وهذا ما حدث فعلا لمكتبتنا الفتية، حيث انصرف كل منا لبناء حياته، فشغلته همومه اليومية عن الهموم الاجتماعية، ولم تعد تزور المكتبة الا لماما، ولم نسع اليها حثيثا كما كنا وانطفأت جذوره حماسنا، وتركنا المكتبة واعباءها وخدمتها، على السيد (محمد الحيدري) وحده. ولحلمه الواسع وخلقه الرضي وحسن تقديره لظروفنا، لم ينح باللائمة على احدنا ولم يوجه اليه عتبا، ولم يتخل عن مشروعنا.. فصبر صبر المؤمنين.. حتى كتب لمشروع المكتبة النجاح الشام.. ولتستقر بهمم الخيرين مستودعا للعلم ومعونا للثقافة ومنهلا عذبا يرفد رواده من المطالعين المتطلعين للمعرفة.
عن كتاب بغداد في الذاكرة |
دیدگاهتان را بنویسید